مقدمـة:
صدر عن منشورات نادي الجراري، ومطبعة الأمنية بالرباط كتاب "مقالات في الحوار" لمؤلفه الدكتور عباس الجراري في طبعته الأولى مايو 2008. وهو كتاب من القطع المتوسط تناول العناصر التالية:

1. الإسلام وحوار الحضارات.

2. هل يوجد حوار إسلامي إسلامي؟

3. الحوار السليم والمتكافئ أساس تحالف الثقافات.

4. حوار الأديان بين عوامل الفشل والنجاح.

5. لماذا الحوار؟ وكيف؟

6. مدى إمكان حوار الثقافات في ظل العولمة.

أهم منطلقات الحوار ومقوماته:
يشكل الحوار مكونا أصيلا من مكونات البناء المعرفي للأستاذ عباس الجراري، لذلك نجده يتخلل معظم كتاباته، كما يشكل عنصرا أساسيا من عناصر نشاطه العام داخل المغرب وخارجه...

ففي سياق وقوفه على المنطلقات الرئيسية للحوار بين الحضارات أورد ثلاث منطلقات؛ أولها يتمثل في موقف الآخر من الإسلام والمسلمين، حيث يجري النظر إليهم "باعتبارهم أمة ضعيفة منعزلة وباعتبارهم كذلك غير متسامحين، وميالين إلى العنف والتعصب." وثانيها أن "العالم مقبل على ما يصطلح على تسميته بالعولمة، هذه العولمة المتسترة خلف العالمية، تتبدّى في ملامح اقتصادية ومنافع مادية في غياب القيم التي بدونها لن يحدث التوازن العالمي."(ص:12 ) وثالثها ما عبر عنه المؤلف بضرورة الدخول في هذا التوازن برؤى وتصورات إسلامية، والقيام بعملية "نقد ذاتي لأحوالنا الحاضرة وللواقع الذي نتخبط فيه، والذي نحن في أمس الحاجة إلى مراجعته لتقوية الذات." (ص:13 )

غير أن الكاتب لم يتوقف عند هذه المنطلقات الثلاث ليعتبر أن "الحديث عن الإسلام وحوار الحضارات يقتضي منا أن ننظر فيما إذا كان الإسلام يقدم نموذجا أو تصورا للحضارة." ليستحضر، في هذا السياق، أمرين مهمين: أولها أن "الحضارة التي أسسها المسلمون قامت على دعائم وأسس من أهمها المعرفة التي جاء بها الإسلام، وهي معرفة ليست كما يدعي خصوم المسلمين معرفة غيبية، ولكنها معرفة تقوم على التجريب وعلى اختبار الأشياء." وثانيها يكمن في اعتماد الحضارة الإسلامية على مبادئ وقيم أجملها في مبدأ "التقوى" كمفهوم جامع يتضمن "جملة من القيم عليها تقوم الحضارة وتتشيد الثقافة ويتحقق التقدم العلمي.." في تفاعل مع الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية والمتمثلة في مبادئ؛ الشمولية، والتكامل والانفتاح، والتوازن.. حيث "كان التفتح على الآخر من أسس ازدهار الحضارة الإسلامية، وأكبر مظهر له، من وجهة نظر الكاتب، هو إقبال المسلمين على العلوم وترجمتها..

كما أن الاستقرار بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كان في أصل الازدهار الذي عرفته أمة الإسلام في عهودها الأولى، والذي نتجت عنه شتى مظاهر الرقي." وهو ما يعكس وعي الكاتب بأهمية الشروط الموضوعية التاريخية للإبداع الحضاري للمسلمين؛من منطلق أن الحضارة التي أبدعها المسلمون كانت وليدة منظور يقوم على جملة مقومات، أجملها المؤلف في؛ الإيمان، والدعوة إلى العمل القائم على الإنتاج والابتكار والإبداع.. فضلا عن التواصل مع الآخر من خلال التواصي بالحق والصبر استجابة للواقع الاجتماعي والإنساني المتسم بالتعدد والتنوع.. (ص:15-16 )

أهم شروط الحوار:
غير أن هذا التعارف والتواصل لا يتم بشكل مجرد وإنما يجري في التاريخ وفقا لمحدداته وشروطه وإكراهاته؛ ولذلك نجد الأستاذ الجراري يشدد على أن هذا التواصل وهذا التعارف يستلزم جملة من الشروط والمقومات أجملها في "التعايش والتسامح والتساكن وتبادل المصالح والمنافع." معتبرا أن الحوار لكي يثمر يحتاج إلى شروط أساسية ينبغي أن تتوافر في الطرفين، سعيا إلى تجاوز النظرة النمطية الجاهزة المتبادلة بين أطراف الحوار؛ الأمر الذي يستوجب تغيير المنظور الذي يتعامل به كل طرف مع الأخر، إذ "ليس في الغرب إلا خصوم الإسلام، بل هناك منصفون وحكماء. كما أنه ليس في البلاد الإسلامية إلا التزمت والجهل والتطرف والإرهاب، بل هناك تسامح واعتدال وعلم وتفتح وتطلع إلى الحداثة في إطار الأصالة." (ص:60-61 )

لذلك فإن الحوار يستلزم "قبول الآخر كما هو؛ أي قبول الاختلاف معه والاعتراف به واحترامه، مما يستوجب عدم المس بمقدساته وثوابت كيانه، دون أي تنقيص منه أو هيمنة عليه." وهو ما لن يتأتى دون معرفته على حقيقته. الأمر الذي "يتطلب تصحيح المفاهيم، والاتفاق على المدلول الحقيقي للمصطلحات المتداولة في الحوار، مثل المقاومة، الإرهاب، الجهاد، القتال الأصولية السلفية الإسلاموية.." (ص:69-70)

ولإبراز أهمية المعرفية الموضوعية بالآخر في نجاح أي حوار يبرز المؤلف كيف أن "مدلول الإرهاب المعتمد عند خصوم الإسلام للطعن فيه واتهامه، والوارد في قوله تعالى )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (البقرة، الآية: 260 ) لا يعني ما تقصده كلمة Terrorism – Terrorisme، وإنما يعني دعوة المسلمين للتسلح بالقوة، بما يجعل العدو لا يجرؤ عليهم. وهو أمر مشروع ومتعارف عليه، ومعمول به عند جميع الشعوب، سواء في القديم أو الحديث." وفي السياق المدان للإرهاب، يميل الأستاذ عباس الجراري إلى "استعمال مصطلح "الحرابة" التي تدل على التعرض للناس واغتصاب أموالهم والاعتداء عليهم. وهو ما أدانه الإسلام وشدد عقوبته في هذه الآية الكريمة: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.) (سورة المائدة، آية : 33 ) وفي الحديث الشريف أن "من حمل علينا السلاح فليس منا".(ص:70-71)

ومع وعي المؤلف بأنه "لا جدوى من أي حوار، بل لا إمكان لإجرائه على نحو سليم ومتين، ما لم يكن مبنيا على تكافؤ بين طرفيه." ومع إقراره بأنه "لا مجال للحديث عن التكافؤ بين قوي وضعيف، أو بين متقدم ومتخلف." إلا أنه يعتقد أن اختلال موازين القوى بين أطراف الحوار لا ينفي أن "يكون بينهما شعور بالاعتراف، أي اعتراف بوجود الآخر، مع كل ما يستوجبه من تقدير واحترام.." مع ما يقتضيه ذلك من "الاستعداد للتعرف إليه، والرغبة في التعاون وتبادل الأخذ والعطاء معه.." (ص:46) إ

لى جانب المظاهر الإيجابية للعولمة في مجال الاتصال والتواصل بين الشعوب، إلا أن الأستاذ عباس الجراري ، وهو يفكر في الأسس النظرية والعملية لعملية الحوار الحضاري، يكشف عن الأبعاد السلبية لهذه الظاهرة في علاقتها الوثيقة بالنظام الرأسمالي العالمي مع ما بات يعرفه من أزمات وتناقضات بنيوية عميقة..حيث أبرز أن قيام العولمة على تحرير التجارة وفتح الأسواق وحرية التبادلات وتخفيض الأسعار، من شأنه أن يقتضي على القدرة التنافسية للدول النامية. كما أن النزوع إلى فرض قوانين واتفاقيات واستثمارات وقروض وغير ذلك من شأنه أن يؤثر على سياسة البلدان النامية التي تضطر إلى الخضوع للمهيآت والمنظمات الدولية المتحكمة.

ومن مظاهر الواقعية التي حكمت مقاربة المؤلف لموقف الإسلام من الحوار أنه لم ير من تناقض بين دعوة الإسلام للحوار واحتفائه به انسجاما مع كون الإسلام" دين حوار بامتياز" وبين تأكيده أن "الإسلام لا يستبعد الصراع" الذي قد يكون "فكريا، وقد يكون حضاريا، كما قد يكون كذلك حربيا"(ص:17 ) ؛ إذ "يكفي أن نتلو القرآن الكريم، يواصل المؤلف، وأن نستعرض لغته لكي نستخرج معجما شاملا متكاملا كله يدور حول الحوار بما في ذلك مادة الحوار نفسها، بحيث نجد الحديث عن التحاور وعن مجادلة وعن البرهان وعن الحجج." (ص:17-18 ) ، مضيفا أن "القرآن الكريم كتاب أساسه الحوار، والله تبارك وتعالى حاور الجميع؛ حاور الملائكة، حاور الأنبياء، حاور المؤمنين، والمنافقين، حاور الشيطان.. "مستخلصا كيف أن "القرآن الكريم يتضمن معجما للحوار لا مثيل له." (ص:28 )

و من مظاهر واقعية مقاربة المؤلف لمسألة الحوار،كذلك، تأكيده على ضرورة أن يتجاوز هذا الحوار "النقاش النظري التجريدي إلى مجال عملي تطبيقي ينطلق من الواقع ويسعى إلى معالجة أدائه." إذا أراد له القيمون عليه استيفاء مقومات النجاح.. (ص:47 )

في منهجية الحوار ومقاصده:
بعد ذلك يبرز المؤلف أن الحوار في الإسلام له بعد وظيفي تواصلي وتربوي، كما أن له بعدا غائيا مقاصديا يتمثل في كون "الحوار الذي يدعو إليه القرآن الكريم غايته قديما وحديثا إحلال السلام بين البشر." وانسجاما مع ذلك فهذا الحوار يقوم على منهجية قرآنية مصداقا لقوله تعالى: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وهذه المنهجية التي تبدأ بالحكمة الجامعة للخير، "يمكن أن تلقى بالكلمة، ويمكن أن تعطى بالمثال والنموذج، ويمكن أن نسربها للآخرين ونقنعهم بها بأساليب مختلفة كلها تدخل في نطاق الحكمة." ليخلص الأستاذ عباس الجراري إلى أن "اللين والموعظة الحسنة هما من مشكلات المنهج الذي يدعو إليه الإسلام في الحوار بعد الحكمة." (ص:20 ) وحتى حينما "لا تنفع الحكمة، ولا تنفع الموعظة الحسنة، فإن الأمر لا يفضي بنا حتما إلى الصراع، وإنما إلى المجادلة. وهي مجادلة "لا تعني التعنيف، ولا تعني الخصام، وإنما تعني تبادل الحجج ومحاولة الإقناع بها." (ص:21 )

أكثر من ذلك فالكاتب يدعوا إلى أن "يحاور المسلمون غير المؤمنين من أصحاب الحضارات الأخرى، عن طريق القيم ومبادئ السلوك العام." حتى وإن اختلفوا علينا في منطلقاتهم العقائدية. وفي هذا المعنى يذهب إلى حد القول: "نحن مستعدون لأن نحاور غيرنا من البوذيين وعبدة الشمس، ومن اللادينيين والملاحدة، أن نحاورهم في حضاراتهم وثقافاتهم من خلال القيم الإنسانية التي يمكن أن تكون مشتركة، والتي يمكن أن تحدث البشرية اليوم على تصحيح المسيرة وتبادل الأخذ والعطاء."

ولم يفت الكاتب التنويه بالدور الذي اضطلعت به المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي عموما وفي المغرب على وجه الخصوص؛ حيث أوضح كيف"كان لعلماء جامعتي القرويين وابن يوسف وغيرهما من المؤسسات العلمية المغربية أثر إيجابي كبير في هذا المجال. وقد أشار إلى بعض العلماء المعاصرين الذين برزوا فيه باهتمامهم الكلامية والفلسفة معرفة الملل والنحل والمذاهب والخلاف العالي، والمناقشات العقدية مع بعض المستشرقين، أمثال العلامة المرحوم حسن الزهراوي الرحماني المراكشي (المتوفى عام 1399هـ الموافق 1979م وشيخه العلامة المرحوم امْحمد بن احمد الرافعي الأزموري الجديدي (المتوفى سنة 1360 الموافق 1941م."

والأهم من كل ذلك أن الكاتب حينما يدعو للحوار لا يدعو إليه من منطلق الوعي بالحاجة الطبيعية للتواصل فحسب، وإنما من شعور غامر بالامتلاء والاقتناع بأن الإسلام يؤمن بالحوار ويدعوا إليه من منطلق الرحمة بالعالمين.. ومن موقع القدرة على العطاء.." ذلك أن العالم يمر بأزمة قيمية حقيقية "والمسلمون لهم كامل المؤهلات والقدرات، ولم رصيد من هذه القيم التي من خلالها يمكنهم أن يحاوروا الحضارات المختلفة." (ص:23 )

وذلك وعيا منه بمركزية الدين ومنظومته القيمية في عملية الحوار الحضاري وعيا منه أن الدين هو " المكيف للثقافات، والمؤثر في العلاقات بين الناس وبين المجتمعات. هكذا كان الحوار الإسلامي المسيحي، وكان الحوار بين الديانات السماوية الثلاثة، وكان الحوار الذي ضم حتى مجموعة من المذاهب والمعتقدات المختلفة غير الديانات السماوية." (ص:27 )

ومع كل ذلك فقد كشف الكاتب كيف أن الديانات الأخرى حينما تتحاور مع الإسلام إنما تفعل ذلك انطلاقا من نظرة مسبقة إلى الإسلام قائمة على الجهل، ولا تخلوا من استعلاء. كما أن هذه الحوارات عادة ما "تتم في جو احتفالي، وغالبا ما يطغى عليها ولو بطريقة خفية عنصر التبشير." (ص:28 ) لكن مع وعي المؤلف بأهمية الحوار مع الآخر، إلا أنه يعتبر أن الحوار مع الذات أولى من الحوار مع الآخر ومؤسس له؛ إذ لا أمل في نجاح الحوار مع الآخر إذا لم ينطلق من وعي عميق للذات بمظاهر تعددها واختلافها وبعوامل قوتها ووهنها.. (ص:28 )

وفي هذا السياق يرصد المؤلف ضعف أدبيات التقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة، لدرجة أن الموسوعات الفقهية بذاتها "لا تزيد شيئا على عملية تجميع آراء المذاهب وأحكامها وضم بعضها إلى بعض" (ص:32 ) كما انتقد عملية التسييس التاريخية التي حكمت نشأة العديد من هذه المذاهب؛ بحيث "كان للعامل السياسي الأثر الكبير في إيجاد المذاهب وفي إيجاد الفجوات بينها، وظل العنصر السياسي يستبد ويطغى إلى أن أصبح يشكل كيان كل مذهب." (ص:29 )

فمع أن الأستاذ عباس الجراري شدد على أن أمر العقيدة لا ينبغي أن يكون موضوع خلاف بين المسلمين مهما اختلفت مذهبياتهم، إلا أنه شدد، بالمقابل، على ضرورة بدل أقصى الجهود في التقريب بين المذاهب الفقهية، بناء على "إرادة علمية مجردة"، بعيدا عن أي ضغط سياسي.. كاشفا مدى الجهل المتبادل بين أتباع مختلف المذاهب (ص:32 )

كما حذر من "إخضاع ثقافتنا في مجموع مفاهيمها وأبعادها" إلى منظومات ثقافية مغايرة..(ص:42-43 ) مشيرا إلى أن التشكل التاريخي لاختيار المغاربة لمذهبهم المالكي يشكل صمام الأمان في مواجهة أي (اختراق مذهبي) حيث أبرز كيف أن المغرب يعد "من الدول القليلة التي احتفظت بوحدة مذاهبها منذ قرون، أي منذ المولى إدريس. طبعا كان المغاربة يأخذون بمذهب أبي حنيفة، وبعض المذاهب الخارجية، وبعض مذاهب الشيعة، ولكن استقر الأمر على المذهب المالكي وعلى أن يكونوا من أهل السنة، واستمر الأمر طوال هذه القرون الإثني عشر." (ص:33 )

غير أن فاعلية ووظيفية هذا الاختيار المذهبي تتوقف على مدى استجابة المسلمين المغاربة لداعي التجديد مع ما يستوجب الإسلام من "اجتهاد لتفعيل نصوصه وربطها بالواقع المتحرك، وكذا بكل ما تعنيه الدنيا اليوم وما تستجوبه من علم وسياسة وقيم مدنية جديدة." بما يحقق التوفيق المحكم بين الأصالة والمعاصرة (ص:44-45 )

ولموجهة مختلف العوائق التي تحول دون إرساء أسس حوار حضاري متوازن ومثمر يدعونا الأستاذ عباس الجراري إلى "أن نكسر الحاجز مع أنفسنا ومع غيرنا،وأن نزيل السجف التي أرخت سدولها الحاجبة للرؤيا، والتي تزيد كثافتها مع تطور الأحداث المتلاحقة."