قلق على فراش الذكريات

صباح مجنون أيقظني من نومي في تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً , أنهضني من فراشي الدافئ , ومن نومي المتقلب الذي أعاني منه منذ برهة من الزمن .
لكن !!! في هذا الصباح المجنون شيء مختلف , يساور خيالاتي وأفكاري المرهقة المتعبة بين أمور الحياة العامة والخاصة في سجال حياتي اليومي , بين هموم وملل وتعب الأعمال المهنية اليومية الروتينية القاتلة .
في وقت تراجع فيه حدقات العيون شريط ذكرياتها على بساطها المخملي البارد من الجفون المكحلة بسواد ليلها الراحل مع نسيم البحر الهارب في ثنايا ثوبه الاسود الهادئ .
وفي لحظات صباحي هذا المجنون تصطحبني جنونياته إلى روائح مختلطة برائحة زهور الياسمين المتدلية من على شرفتي الصغيرة , لألحانٍ لا أجهلها وصوت لا أجهله إنه صوت فيروز تغني لصباحي المجنون , أطلقت سمعي لكن شيء حال بين شدو فيروز الشطئان ورائحة زهور الياسمين !!!
إنها رائحة عوادم , وضجيج عربات نقل , وبكاء طفل صغير , وصوت بائع الكعك العجوز , وجرس منبهي الصباحي .
إنها الساعة الآن تدق السابعة صباحاً وأنا ما زلت بين جنون صباحي وجمال طبيعة هذا الصباح التي سرقت دون إذنٍ كما سرقت من الكثير غيري .
الطبيعة التي لم تعد هي الطبيعة التي عرفتها فقد أصبحت الطبيعة بلا مناظر طبيعية , بلا جواهر, بلا شواطئ , بلا حدائقٍ , بلا مشاعر, بلا طيورٍ , بلا عيونٍ , وبدون حتى كلام .
ليس لي في هذا الصباح المجنون غير أن أستذكر من مشاهد الذاكرة ما رواه جدي وجدتي لي من رواياتٍ وحكاياتٍ وما رسمته لي تقاسيم وجههما المدور كقرص عباد الشمس الحزين في صحراء قفرة هرمت جبالها ... انقرضت معالمها ... تصحرت طبيعتها من طبيعتها الكونية كما رحم الأم حين يجرد من الطفولة.
لأشتاق وتشتاق أحاسيسي وبلورات عيناي العسليتانِ الحزينتان ذات الجفون المخملية المشحبة بسواد الأرق وحزن الحياة لعودة الطبيعة فيها , ولحياة البساطة والتواضع , الى جمالها الذي رواه لي جدي العجوز وتناقلته جدتي العجوز لأبنائها وأحفادها الصغار , لعودة شمس صباحها الصفراء المكسورة فوق سنابل القمح في حقول الأجداد والآباء , لشعاعها الدافئ حين يتسلل بهدوءٍ الى عيون الغدير ليكسر نوره على حدائق النعمان والسفرجل فيداعبها كالطفلة البريئة فيعطيها تلك الابتسامة الخفيفة الناعمة كأوراق زهورها الجذابة الساحرية البيضاء كبياض ما يحيط بحدقات عيوننا المشتاقة لتسقط منها قطرات الندى على تفاح الخدود فتعيدنا مع نسائمها لصوت الشادوف وخرير الماء ولألحان حادِ القطيع وغناء الحقول وذكريات الأجداد, لصدى رحى طواحين القمح وتروس عجلاتها حين تمتزج بسنابل القمح الذهبية , ولرائحة فرن الطين والصاج وخبز الطابون المحمر على يدي جدتي العجوز , ولرائحة الهيل الهارب من دلة قهوة جدي العجوز إلى شاطئ النهر وما أن تختلط رائحته مع وجه مياهه الصافية حتى تخرج أسماك النهر لتتراقص على رائحته تتمنى الحصول على رشفة منها , لرائحة أزهار النيروز والليمون والبرتقال التي تتأرجح على غصون الأشجار وغناء البلابل وعلى أعزوفة الكناري والحسون , للسواقي وهديل الحمام رسول الأشواق وحامل السلام , للفأس والقدومِ والمنجلِ وثوب الفلاحِ , لبوق القطار العائد من مدن الأحلام ليقف في قاعة العودة ليستريح من بعد رحلة سفرٍ وعناءٍ طويلة ليستقي من فنجان قهوة جدي العجوز .
لكن ما زال سؤالي حائراً بين جنون هذا الصباح وملحمة الذكريات , هل هذا ما دفعني لأن أبحر في قارب صغير ذوو مجدافين صغيرين ؟؟
أم أن هناك شيء دفعني لأبحر في بحر الذكريات لشواطئ هجرت وموانئ مضى عليها سنين طوال خاوية ؟
أعوام مضت لم يبقى منها غير صور أسترجع ملامحها كلما نظرت في دمعة أمي وفي بسمة أبي الحزينة , بل في تقاسيم وجه جدتي التي في كل تقسيمة منها يوجد فيها معانٍ وذكريات لسنين رحلت حملت في طياتها شوق عيناها التي أذبلتها شقاء تلك السنين والأوجاع والحرمانِ في تلك المشاهد التي أراها في صفحات وجهها المدور المجعد , والتي أقرؤها في حدقات عيناها الحزينة واسمعها من بين تمتمات شفائفها المشققة كأوراق الزهور على بوابة خريف قادم , وفي رواياتها التي أسمعها منها كلما حاولت التسلل لذاكرتها التي أعتبرها مرجع وقاموس لأحفادي وأبنائي لسنين طوال , لأسترق منها الشيء القليل والتي أرغمها في كثيرٍ من الأحيان لأن أسمعها من فاهها اللوزي الذي غابت ابتسامته الوردية بين دموعها التي تحاول من خلالها التعبير والإفصاح عن شوقها لسنين الشباب وزهور العمر التي سلبت منها بدون إذنٍ ليلقي بها في شراع صغير مبحر نحو شاطئ الذكريات والحنين على موانئ قلبها المرهق بين تنهيدات الألم وزفرات الأمل

تقبل خالص شكري على جميل ماتسطر

تقبل مروري