وأولي الأمر منكم... المراد الشرعي...وتحريف أصحاب المنافع

قبل أن أبدأ الحديث حول هذا المفهوم الراقي في التشريع الإسلامي حول ولاية الأمر وضرورة الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر من المؤمنين ، أود أن أذكر شيئاً يتعلق بالأساس الإعتقادي عند الحديث عن الأحكام الشرعية، إذ لا بد لي من التوضيح حتى لا يلتبس الأمر لدى الكثيرين ممن يرون ظاهر الدليل الشرعي ولا يدققون فيما يدور حوله من قرائن، أو أولئك الذين ينظرون في الدليل الشرعي وفق نزواتهم ومطامحهم.
البعد الإعتقادي في التشريع الإلهي: لا شك أن التشريع الإلهي جاء لإرساء حقيقة مهمة في نفوس العباد، ألا وهي مسألة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، فهو الرب الرازق المعطي المانع بيده كل شيء ، ثم هو الإله الواحد الذي يستحق العبادة وحده، وهو الذي له الأمر والنهي ، وبالتالي فإن اي تأويل لنص إلهي او نبوي يبعد الإنسان عن هذه الحقيقة هو تأويل فاسد لنص صحيح ، وهنا وقع الجهلة في الخطأ وتعمد المرجفون من اصحاب المنافع الذاتية الخروج على مراد النصوص فأولوا وأفسدوا التأويل . فالله سبحانه أمر بالطاعة المطلقة له ولنبيه صلى الله عليه وسلم ، فكرر فعل الأمر "أطيعوا" حسب مقتضى التشريع مرتين ، ومن هنا فإن طاعة الله مطلقة بحكم أنه الرب والإله صاحب الولاية على النفس الإنسانية وصاحب الأمر والنهي على العقل والجوارح ، فهو رب العالمين ومالك السماوات والأرض وما بينهما ، وما منزلة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا من منزلة الرسالة الموحاة من عند الله ، وبالتالي وجبت طاعته طاعة مطلقة وفق التاويل الصحيح للنصوص الشرعية التي ينطق بها، وهي ضمن قوله وفعله وتقريره "أي ما يقره من أفعال الآخرين" وهو القائل فيه ربه سبحانه "وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى " ، فهذه مسألة الطاعة غير المشروطة لله وللرسول دونما سواهما.
ثم كان النص القرآني القويم بحفظ النظام في بنيان الدولة بان جعل لولي الأمر طاعة مشروطة ، فهذه الآية وغيرها من القرائن الشرعية تثبت ذلك بعيداً عن الأهواء وبالحجة والدليل. "وأولي الأمر منكم " فواو العطف هنا تفيد إلحاق اولي الأمر من حيث وجوب الطاعة بالله ورسوله ما داموا قائمين بشرع الله مخلصين له ، يرعون حقوق الناس بالمعروف ، ثم قال "منكم" أي إذا لم يخرجوا عن ملتكم "ملة الإسلام" بافعالهم وأقوالهم –انظروا إلى أفعال وأقوال حكامنا- أو لم ينحرفوا بفسق واضح بيّن –ما شاء الله طول نهارهم بالجوامع-.
وهذه الآية اخرجت كل من ليس من المسلمين في الولاية العظمى ، وقد أفرد لهذه المسألة الإمام الماوردي فصولاً في الأحكام السلطانية تتحدث عن هذا الأمر،و للقارئ حرية الاستزادة منها كما يشاء. هذه الصياغة للنص التشريعي ألزمت علماء الأمة أن يقفوا دائماً عند حدودها وأن يتدبروها ، لكن وللأسف ، ساءت أحوال أمتنا ورفع العلم والعلماء، وتنفذت فئة الرويبضة وانبرى أصحاب الهوى للحديث وللتأويل بما قال الله ورسوله ، فكان من سوء التاويل ما رأينا وسمعنا.
الواقع العملي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته: أما في عهد رسول الله فكانت طاعة المؤمنين للرسول مطلقة دونما تحريف او تسويف ، فقرانا سيرهم وتسابقهم فيما بينهم لطاعته ، ولم يشذ عن هذا الأمر إلا المنافقون وأولو "الإربة" من اشباه الرجال، اما الصحابة الأوفياء وزوجاتهم وأبناؤهم فقد تفانوا في طاعة الله ورسوله والصور والأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها في مقالة. أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما ولي الخلافة قال : " لقد وليت عليكم ولست بخيركم ، أطيعوني ما اطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" والصحابة لا يطلقون عباراتهم جزافاً ، إنما هم متبعون لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم هم خير جيل بعد نبينا الكريم "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ..." أما المتنطعون من جيل علماء السلطان فلا مكان لهم في هذا الحديث .
كذلك فإن مقولة ابي بكر واضحة بينة في مسالة "المعصية" فقط ، وليس الابتعاد عن المسلمين والخروج عليهم بعمالة او بنفاق ، فكيف بنا إذا رأينا من أعمال حكامنا دون استثناء ما يفوق العمالة والانحراف عن العقيدة ، فإذا كانت المعصية في نظر أبي بكر سبباً لعدم الطاعة فمن باب اولى حينما لا يرى الحاكم مصالح شعبه ولا يعمل لها وعليها، من باب أولى أن لا يطاع ، بل "ليس منا".
عمر بن الخطاب وقف في الناس خطيباً وأراد أن يمتحنهم ، فقال " ما رأيكم لو ملت عن الحق هكذا وأومأ برأسه، يعني انحرف عن المسار ، فقام أعرابي وقال : نميل بالسيف هكذا، وهنا حمد الله عمر وقال: "الحمد لله الذي جعل من المسلمين من يقوم عمر" ولست هنا ادعو للميل بالسيف ، إنما هكذا كانت المفاهيم لدى خير جيل. ذات الخليفة الفاروق الذي يعد اسطورة في العدالة يأمر بضرب ابن عمرو بن العاص مقتصاً للقبطي المسيحي ، ثم يقول قولته الشهيرة"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً".
بعض علماء المسلمين يقرون بمغزى الدليل ويحاكون الواقع في الفتوى: هناك من العلماء من رأى أنه لا يجوز الخروج على الحاكم المسلم العاصي إذا خشي الناس فتنة كبرى ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اتقاءٍ لشر الحاكم وليس إقراراً له بافعاله، ومن هنا وحينما ننادي بالتغيير السلمي فهي رسالة واضحة لأننا نرفض الفتن ونرفض ان يكون التغيير على أيدي أجنبية لن ترعى مصالح الأمة . مسألة الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعته لله مشروطة بإخلاصه لرعيته. هذان الحديثان من صحيح البخاري "و حدثنا ‏ ‏شيبان بن فروخ ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو الأشهب ‏ ‏عن ‏ ‏الحسن ‏ ‏قال ‏:‏عاد ‏ ‏عبيد الله بن زياد ‏ ‏معقل بن يسار المزني ‏ ‏في مرضه الذي مات فيه فقال ‏ ‏معقل: ‏ ‏إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، ‏‏إني سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول ‏ ‏ما من عبد ‏ ‏يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ‏" ‏ "حدثنا ‏ ‏أبو نعيم ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو الأشهب ‏ ‏عن ‏ ‏الحسن ‏أن ‏ ‏عبيد الله بن زياد ‏ ‏عاد ‏ ‏معقل بن يسار ‏ ‏في مرضه الذي مات فيه ‏ ‏فقال له ‏ ‏معقل ‏ ‏إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏سمعت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول ‏ ‏ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة " ‏ وفي الحديث الشريف عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: :"كلكم راع،وكلكم مسئول عن رعيته" ثم قال: "من بات غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة" أو كما قال عليه الصلاة والسلام" أما صورة هذا الحديث فهي بحوار عمر مع زوجته: "ذكر ابن كثير في تاريخه بسند جيد عن أسلم مولى عمر قال: قال لي عمر في ظلام الليل، وعمر لا ينام، تقول له امرأته: يا أمير المؤمنين لا تنام في النهار ولا تنام في الليل، قال: "لو نمت الليل لضيعت نفسي، ولو نمت النهار لضاعت رعيتي " .
صيغة الحديث هنا كناية عن قلة النوم وليس عدمه ليتسنى له القيام برعاية شؤون الأمة ، وهنا أتساءل : هل بين حكامنا من هو كعمر ؟!! شعوبنا تموت جوعاً وحكامنا متخمون ، أيت العدالة؟ نساء المسلمين مستضعفات محرومات لا يجدن ما يسترن به أجسادهن ، بينما نساء الملوك والحكام يبذرن اموال الشعوب على زينتهن في صالونات باريس ودور أزيائها ... "هل هؤلاء منا" لنطيعهم...؟!! كان عمر يحوم المدينة يبحث عن صاحب حاجة يؤديها له ، بينما يقوم عسس السلطان في حاضرنا بالسهر ليل نهار بحثاً عن معارض لتقتحم بيته قواتهم وتدخله السجن ... أين العدالة لنطيع؟ كانت جيوش عمر تحيط دولة المسلمين تحميها وتنشر الإسلام وها نحن نعيش تحت رحمة قوات البشمركة "الدرك" يبحثون بين الأحياء عن اطفال اخرجهم الجوع والعري ليتظاهروا في الشوارع ليحطموا أيديهم وأرجلهم ... بينما حمانا العربي والإسلامي مستباح ، وجيوشنا تؤجر وتباع لهيئة الأمم... أين العدالة يا أولي الأمر ؟!! ويا علماء المنافع الذاتية ؟!!!
أخيراً: يستطيع أي شخص مهما بلغ هزل علمه ان يتخذ نصاً شرعياً يتمترس خلفه ليبرر ضعفه وهوانه ... لكنه لن يستطيع حرف النص عن مبتغاه، لان النص التشريعي في ديننا هو بمقاصد الشريعة ومعنى المشرع ... فهل تستطيعون تحريف ما يريد الله إن حرفتم قوله أو معناه؟!! عودوا بخيبتكم فمعجزة موسى لا توازيها أفعال سحرة فرعون ... إنها شريعة الله وأنى لها أن تؤتى من الطابور الخامس ...