صنعاء – نجلاء حسن الحياة - 08/01/09//

وحيدة، بقلب مهزوم، وروح مسلّمة، وجسد معلول، تواجه الحاجة عائشة إسماعيل يحيى حياتها. تلوك ذاكرتها حصيلة 65 سنة هي سني عمرها، بحلوها ومرها. ولا ترجو الله إلا العافية وتقول ذلك ببساطة: «إذا العافية موجودة، واحد يأكل خبزه على ماء، ويستر نفسه حتى بشوال، الأصل العافية».

المرأة قضت السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من عمرها، ولا تزال، في مستشفى للأمراض النفسية، ولكنها لا تعاني أي مرض نفسي، وما بقاؤها هناك إلا لأن أحداً لم يعد مسؤولاً عنها. تقول: «جلست في المستشفى، ما معي حد، لا أم ولا أب ولا حد». وفجأة، يلمع في ذاكرتها ابنها الوحيد: «أتى منذ 9 سنوات، ولا أدري أين هو». تفارق الكلمات لسانها لتظهر الحسرة على ملامحها، فتحاول محوها بابتسامة باهتة وتضيف: «وسلامتك»، وكأنها تنهي الحديث.

لم تعش الحاجة عائشة حياة هنيئة، فزوجها طلقها منذ أول سني زواجهما. وفقدت عدداً من أبنائها قبل موعد مولدهم. وبعد أن أنجبت طفلها الأول سليماً معافى، عادت إلى بيت أمها، إذ كان أبوها متوفياً. وعكفت على تربية ابنها، حتى أن كبر وسافر إلى المدينة بحثاً عن عمل يسترزق منه، لتتوفى أمها وتضطر للانتقال إلى حيث أصبح ابنها يبني حياته الجديدة، لتعيش معه وزوجته.

واليوم تشكو الحاجة عائشة من أمراض مزمنة، أعضاء في جسدها لم تعد بخير منذ سنوات: عيناها، قلبها، وكليتاها، وتعاني السكري وارتفاع ضغط الدم... تذكر علاتها وتدعو بالخير لمن يسهرون على راحتها في مستشفى الأمل للطب النفسي في العاصمة صنعاء، مدركة أن ذلك ليس اختصاصهم، وأن بقاءها هنا ما هو إلا عطف من الله ومن القائمين على المستشفى.

تقول: «ربّ يسر لي القلوب العاصرة والرقبة القاصرة»، في إشارة منها إلى الأمان والراحة التي تحياهما، وهي في هذه السن وليست بين أبنائها، وإلى من يتحمل رعايتها على رغم أنها أحياناً، لمّا تتعب تصيح عليهم، «ويتحملوني، الله يوفقهم، ما خلو مستشفى إلا وعالجوني فيه على حسابهم، والله لو أنا عند أهلي ليكرهوني»، تقول متضرّعة.

وتروي حكاية دخولها المستشفى. ابنها الوحيد أتى بها إلى هنا، بعد أن توترت العلاقة بينها وبين زوجته: «لم نتفق، وهي ما تحب أجلس عندهم، من يوم مرضت، وزاد مرضي وكثرت شكوتي». وتجد لموقف كنّتها مبرراً: «هو وزوجته حالتهم تعيبة (فقراء)، وابني يشتغل باليومية، ما عنده عمل ثابت وراتب».

كان ذلك منذ ما يزيد على 11 عاماً، وعلى ما يبدو فان الحاجة عائشة عانت آنذاك من ضغط نفسي أدّى إلى نقلها إلى المستشفى. ولكنها بعد أن تجاوزت تلك المرحلة، وبدأت تلقي علاجات لأمراض عضوية أخرى، شعرت بالراحة والاطمئنان ولم تعد راغبة في مفارقة المكان والعودة إلى جحيم الفقر والمشاكل مع زوجة أبنها.

وتقول: «بعد 3 سنوات جاء ابني يريد أن يخرجني من المستشفى. ولكني كنت ارتحتُ هنا، والناس طيبون، فما رضيت أن أخرج معه». ذلك ما يؤكده الأطباء المسؤولون عن حال عائشة، ويشيرون إلى أن انقطاعه عن زيارتها أثر في وضعها الصحي.

«لا أعرف أين هو، بعد غياب 9 سنوات، ولا أعرف رقم هاتف لأتواصل معه عبره»، تقول بحسرة، وتضيف: «هو فقير الحال، وعلاجي مكلف... أحسن لي أن أدعه وشأنه».

عام دخولها المستشفى كان لولدها أربعة أبناء، لكن الحاجة عائشة لا تدري كم لديها من أحفاد: «أفتقد الصغار. لقد كبروا الآن».

تفتقد الجدة ولدها وأحفادها، لكنها لا تملك إليهم سبيلاً. «إدارة المستشفى حاولت مراراً التواصل مع ابنها والبحث عنه، لكنهم لم يوفقوا إلى ذلك»، يقول د. عبد الواسع الواسعي، المدير العام لمستشفى الأمل للطب النفسي في صنعاء، لافتاً إلى أن كثيرين من الأهالي يتخلون عن ذويهم بعد أن يودعوهم المستشفى للعلاج.

ويضيف: «نحاول التواصل معهم، وإذا لم يحضروا، فإن شفاء المريض (الرجل)، يبقينا مطمئنين إلى أننا نستطيع أن نسمح له بالمغادرة ويصبح مسؤولاً عن نفسه. ولكننا لا نستطيع تطبيق التصرّف ذاته على النساء لأن خروجهن من هنا يعرضهن لأخطار، لذا يبقين هنا، ونحاول البقاء على تواصل دائم مع أهاليهن، والبحث عنهم بالتعاون مع الجهات الأمنية، وفي أحيان كثيرة لا نصل إليهم».


<h1>يتخلى عنهم الأبناء في مستشفيات اليمن... للعجائز الرجال خيار المغادرة والنساء يفضلن البقاء</h1>
<h4>صنعاء – نجلاء حسن الحياة - 08/01/09//</h4>
<p>
<p>وحيدة، بقلب مهزوم، وروح مسلّمة، وجسد معلول، تواجه الحاجة عائشة إسماعيل يحيى حياتها. تلوك ذاكرتها حصيلة 65 سنة هي سني عمرها، بحلوها ومرها. ولا ترجو الله إلا العافية وتقول ذلك ببساطة: «إذا العافية موجودة، واحد يأكل خبزه على ماء، ويستر نفسه حتى بشوال، الأصل العافية».</p>
<p>المرأة قضت السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من عمرها، ولا تزال، في مستشفى للأمراض النفسية، ولكنها لا تعاني أي مرض نفسي، وما بقاؤها هناك إلا لأن أحداً لم يعد مسؤولاً عنها. تقول: «جلست في المستشفى، ما معي حد، لا أم ولا أب ولا حد». وفجأة، يلمع في ذاكرتها ابنها الوحيد: «أتى منذ 9 سنوات، ولا أدري أين هو». تفارق الكلمات لسانها لتظهر الحسرة على ملامحها، فتحاول محوها بابتسامة باهتة وتضيف: «وسلامتك»، وكأنها تنهي الحديث.</p>
<p>لم تعش الحاجة عائشة حياة هنيئة، فزوجها طلقها منذ أول سني زواجهما. وفقدت عدداً من أبنائها قبل موعد مولدهم. وبعد أن أنجبت طفلها الأول سليماً معافى، عادت إلى بيت أمها، إذ كان أبوها متوفياً. وعكفت على تربية ابنها، حتى أن كبر وسافر إلى المدينة بحثاً عن عمل يسترزق منه، لتتوفى أمها وتضطر للانتقال إلى حيث أصبح ابنها يبني حياته الجديدة، لتعيش معه وزوجته.</p>
<p>واليوم تشكو الحاجة عائشة من أمراض مزمنة، أعضاء في جسدها لم تعد بخير منذ سنوات: عيناها، قلبها، وكليتاها، وتعاني السكري وارتفاع ضغط الدم... تذكر علاتها وتدعو بالخير لمن يسهرون على راحتها في مستشفى الأمل للطب النفسي في العاصمة صنعاء، مدركة أن ذلك ليس اختصاصهم، وأن بقاءها هنا ما هو إلا عطف من الله ومن القائمين على المستشفى.</p>
<p>تقول: «ربّ يسر لي القلوب العاصرة والرقبة القاصرة»، في إشارة منها إلى الأمان والراحة التي تحياهما، وهي في هذه السن وليست بين أبنائها، وإلى من يتحمل رعايتها على رغم أنها أحياناً، لمّا تتعب تصيح عليهم، «ويتحملوني، الله يوفقهم، ما خلو مستشفى إلا وعالجوني فيه على حسابهم، والله لو أنا عند أهلي ليكرهوني»، تقول متضرّعة.</p>
<p>وتروي حكاية دخولها المستشفى. ابنها الوحيد أتى بها إلى هنا، بعد أن توترت العلاقة بينها وبين زوجته: «لم نتفق، وهي ما تحب أجلس عندهم، من يوم مرضت، وزاد مرضي وكثرت شكوتي». وتجد لموقف كنّتها مبرراً: «هو وزوجته حالتهم تعيبة (فقراء)، وابني يشتغل باليومية، ما عنده عمل ثابت وراتب».</p>
<p>كان ذلك منذ ما يزيد على 11 عاماً، وعلى ما يبدو فان الحاجة عائشة عانت آنذاك من ضغط نفسي أدّى إلى نقلها إلى المستشفى. ولكنها بعد أن تجاوزت تلك المرحلة، وبدأت تلقي علاجات لأمراض عضوية أخرى، شعرت بالراحة والاطمئنان ولم تعد راغبة في مفارقة المكان والعودة إلى جحيم الفقر والمشاكل مع زوجة أبنها.</p>
<p>وتقول: «بعد 3 سنوات جاء ابني يريد أن يخرجني من المستشفى. ولكني كنت ارتحتُ هنا، والناس طيبون، فما رضيت أن أخرج معه». ذلك ما يؤكده الأطباء المسؤولون عن حال عائشة، ويشيرون إلى أن انقطاعه عن زيارتها أثر في وضعها الصحي.</p>
<p>«لا أعرف أين هو، بعد غياب 9 سنوات، ولا أعرف رقم هاتف لأتواصل معه عبره»، تقول بحسرة، وتضيف: «هو فقير الحال، وعلاجي مكلف... أحسن لي أن أدعه وشأنه».</p>
<p>عام دخولها المستشفى كان لولدها أربعة أبناء، لكن الحاجة عائشة لا تدري كم لديها من أحفاد: «أفتقد الصغار. لقد كبروا الآن».</p>
<p>تفتقد الجدة ولدها وأحفادها، لكنها لا تملك إليهم سبيلاً. «إدارة المستشفى حاولت مراراً التواصل مع ابنها والبحث عنه، لكنهم لم يوفقوا إلى ذلك»، يقول د. عبد الواسع الواسعي، المدير العام لمستشفى الأمل للطب النفسي في صنعاء، لافتاً إلى أن كثيرين من الأهالي يتخلون عن ذويهم بعد أن يودعوهم المستشفى للعلاج.</p>
<p>ويضيف: «نحاول التواصل معهم، وإذا لم يحضروا، فإن شفاء المريض (الرجل)، يبقينا مطمئنين إلى أننا نستطيع أن نسمح له بالمغادرة ويصبح مسؤولاً عن نفسه. ولكننا لا نستطيع تطبيق التصرّف ذاته على النساء لأن خروجهن من هنا يعرضهن لأخطار، لذا يبقين هنا، ونحاول البقاء على تواصل دائم مع أهاليهن، والبحث عنهم بالتعاون مع الجهات الأمنية، وفي أحيان كثيرة لا نصل إليهم».</p>
</p>