أحمد الهاشم سعيد جدا اليوم...
منذ أيام و هو ينتظر يوم الجمعة على أحر من جمر, و ها هو يجهّز "العدّة" التي قضى الأسبوع و هو يصنعها.
حميد, أخوه الكبير,
سيتزوج بعد أسبوعين, و من تحضيرات العرس الفراتي الأساسية طقس غسل الصوف
الذي سيدخل في أثاث بيت العرسان الجدد, و هذه العادة المتجذرة لم يستطع
الأثاث الحديث و لا حتى قوانين البلدية أن تنهيها, فهو طقس, عدا عن نفعه
لتنظيف الصوف, عائلي و احتفالي, و بمثابة اختبار لشعبية أم العريس و معرفة
مدى قدرتها على تجنيد الجارات و القريبات و الصديقات للمساعدة.
طبعا يتخلل المهمة حفلة شواء على ضفة النهر, و استمتاع ببرودة الماء في القيظ الخفيف لأيام نهاية الربيع.
لكن أحمد لم يكن
مهتما بكل هذه الأمور, فقد كان سعيدا لأنه سيذهب بصحبة أبناء جاراتهم و
أقربائهم برحلة إلى الفرات, هذا العملاق الذي يعد مجرد التفكير بالاقتراب
منه من المحرّمات, رغم أنه لا يبعد عن البيت إلا مئات الأمتار. و الذي
تحوم حوله أساطير الخطورة, قصص لا يعلم أي منها حقيقي و أيها اخترعته أمه
لكي تجعله يخاف النهر و يهاب الاقتراب منه.
خلال الأسبوع
المنصرم, كان قد حصل على خطّاف صيد قديم بادله بكرة زرقاء اللون مع زميل
صف هو ابن صياد سمك. و اشترى 4 أمتار من خيط نايلون و سرق قصبة طويلة من
عريشة بيت عمه المجاور لبيته, و بذلك صنع صنارة سمك صمم على استخدامها في
رحلة غسل الصوف و صيد سمكة شبوط كبيرة يشويها و يأكلها مثل المغامرين
الذين يقرأ عنهم في مجلات الأطفال.
انطلقت القافلة
المؤلفة من 3 شاحنات صغيرة في الصباح الباكر, و اتجهت جنوبا بمحاذاة
الجامع الكبير و مرورا ببستان البلدية, حتى الوصول إلى الجسر القديم, حيث
يوجد طريق ترابي صغير جنبه يؤدي إلى سرير النهر.
بعد المشاركة
الإجبارية بتنزيل الحمولة و وضعها بشكل ملائم لمهمة الغسل, انطلق الأولاد
نحو الماء حاملين الصنارة, بعد أن تلقوا أمرا بعدم الدخول في الماء مصحوبا
بسيل من التهديدات و الوعود بالذبح و السلخ في حال عصيان الأوامر, و بعد
أن شقوا نصف رغيف كي يستخدموه طعما للسمك الذي ينتظرهم.
جلسوا على الضفة, و رمى أحمد الخطّاف بعيدا كيفما استطاع...
و جلسوا ينتظرون...
و مر الوقت ثقيلا... و لا أثر للشبوط
غيّروا طعم الخبز, و وضعوا قطع خس أيضا..
و لا فائدة...
قرروا تغيير المكان إلى أبعد قليلا...
و أعادوا المحاولة.. بدون فائدة...
فجأة انتبه أحمد
لوجود صخرة بارزة على بعد حوالي عشرين مترا من مكانهم, تبعد عن الضفة
حوالي الخمس أمتار, و فكر أنه لو استطاع الوصول إليها و رمي الخطاف من
هناك لوصل إلى مكان أبعد عن الضفة, و لكانت حظوظه بالفوز بالصيد الثمين
أكبر.
عرض فكرته على الأولاد... فكان ردهم مزيجا من التشجيع و الخوف من بطش الأهل..
لكن أحمد يريد أن
يصيد... و هو متأكد أن صغر المسافة حتى الصخرة يؤكد أنه ليس هناك ما يخاف
عليه, فعلى الأكثر سيصل منسوب الماء حتى بطنه و لن يغمره..
و استغل غفلة من أهله.. و دخل في الماء..
مشى مترين.. و شعر بقوة جبارة تدفعه و تقتلع قدميه من موطئهما.. و تتحرك به كقشة في مهب الريح...
جرى
كل شيء سريعا... صراخ الأولاد... أخوه حميد و أبناء عمومته يركضون نحوه و
يرمون أنفسهم بالماء... ابن عمه يحمله و يخرجه سريعا و يتركه على الأرض...
و شعر بأول ركلة على قفاه....
استفاق من ذهوله ليرى أهله و الموجودين يحيطون به و يصرخون و يشتمونه...
أول صفعة... ثم ركلة أخرى على قفاه...
و كأنهم وقفوا في
رتلين على شكل ممر كي يمر فيه و يتلقى ضربات الجميع و شتائمهم.. و هو يركض
في هذا الممر و يحاول الهروب من العقوبة...
استمر مهرجان الركل
و الصفع حتى أحس بصوت لعنات أمه و وعودها بتكسير عظامه يقترب... ثم لسعة
ألم فظيع في فخذه... ضربة مطرق خيزران على جلده المبتل و كأنها رصاصة
بارودة روسية.
جرته أمه من أذنه و
صوتها يصدر حشرجة هي مزيج من بكاء الرعب و اللعنات و الشتائم.. و ذهبت به
إلى إحدى الشاحنات حيث حبسته و منعته من الخروج حتى العودة إلى البيت..
داخل الشاحنة جلس
أحمد يبكي بحرقة و هو يحس أنه يحتاج إلى دزينتين من الأيادي كي يتحسس جميع
مواضع الألم .. و أذنه تؤلمه جدا, و يحسها و كأنها أصبحت أذن فيل مصاب
بضربة شمس.. لانتفاخها و احمرارها و حرارتها
و مكان ضربة مطرق الخيزران... يا ويلاه.. يبدو كوادي النيل في خريطة حمراء اللون...
و ما هو مؤلم
أكثر... الأولاد متحلقون حول الشاحنة ينظرون إليه عبر النوافذ و هم
يضحكون, و كأنهم يرون قردا يدخّن في قفص في حديقة الحيوان...
بعد نوبتي بكاء شديد... قرر أحمد أنه لن يذوق السمك مرة أخرى في حياته, و أنه يكره النهر... و يكره الصوف...
و القرار الأخير... أنه لا يريد أن يتزوج كي لا يجيئوا لغسل الصوف...
ثم نوبة بكاء أخرى....