القاهرة - أمينة خيري الحياة - 08/01/09//

كانتا تفتخران بأنهما أشبه بمعادلة «اجتماع العضلات والمخ»، فإذا غابت الأولى أصبح «الخير» ضعيفاً، وإذا غابت الأخيرة أصبحت الأولى «حمارة». شقيقتان تفصل بينهما ست سنوات زمنياً، وآلاف الأميال جغرافياً، وبضعة الملليمترات روحياً.

نشأتا في بيت مصري ابتلي بخلافات أسرية بين الأب والأم، أسفرت عن سنوات من إعلان دائم لـ «حال الطوارئ»، وترقب مستمر مشوب بالخوف والحذر. الابتلاء الثاني هو إصابة الشقيقة الأولى بفيروس في طفولتها ترك لديها إعاقة حركية دائمة، نجحت في تحويلها الى شحنة إيجابية مستدامة. وعلى رغم معاملتها من الجميع بمن فيهم أسرتها على أساس أنها البنت الضعيفة والمسكينة، وعلى رغم رفضها هذا النوع من المعاملة، لم تبد يوماً اعتراضاً لأنها نشأت على أن الاعتراض «قلة أدب». واكتفت في قرارة نفسها بالنظر الى كل من يعاملها على اعتبارها معوّقة «مسكينة» أو ينظر اليها بعين «الشفقة» بعيون واسعة كبيرة ملؤها السخرية والدعابة. حوّلت كل المشكلات المحيطة بها الى مصدر قوة، وكانت الأذن الوحيدة التي تستمع لشكوى والدتها الدائمة من والدها، والعقل الذي يزن ويستوعب ضجر الأخير الذي لا ينقطع من زوجته (والدتها). وفي خضم ذلك كله، نصّبت نفسها حامياً وراعياً وملجأ لشقيقتها الصغرى، لا سيما أثناء موجات الخلافات الأسرية «العاتية» التي كانت تدفع الصغيرة للاختباء تحت السرير هرباً من أصوات الصراخ والصياح المفزعة.

ونشأت الصغيرة على اعتبار أنها «الولد» الذي لم ترزق به الأسرة. شقاوة، وجدل مستمر، واعتراض دائم، ومطالبة لا تكل ولا تمل بحقوق ومكافآت لا تتوقف.

حظيت الشقيقتان بتعليم متميز مكّن الأولى من تبوؤ مكانة مرموقة في شركة أنظمة كومبيوتر كبيرة، أما الثانية فحصلت على منحة دراسية لاستكمال دراساتها العليا في الولايات المتحدة الأميركية. وبدلاً من أن تعود بعد سنتين – كما هو منصوص عليه في المنحة – قرّرت البحث عن عمل والإقامة هناك، حيث نجحت. وأقنعت شقيقتها بتقديم استقالتها والانضمام إليها. السنوات التي أمضتها الشقيقتان في الخارج أطلقت العنان لعلاقتهما المتشابكة والمعقدة لتتبلور وتتضح أبعادها. وعلى رغم نجاح الصغرى في عملها في شكل لافت، وإمعانها في أن تمضي حياتها كما تحب، بالطول والعرض، ونجاحها في رسم صورة لنفسها على اعتبارها الفتاة «الفولاذية التي لا تقهر»، إلا أن وراء هذه الصورة الصلبة كانت تقبع مشاعر وأحاسيس بالغة الهشاشة، وشعور هائل بعدم الأمان.

وبعد أن قررت الصغيرة أن تكلل قصة حب بشاب مصري عائد الى الوطن الأم بالزواج، شاركته كل ما أسسته وأنجزته، إضافة الى أن شقيقتها وراءها، لم تجد ما كانت تطمح إليه. فما أن وطئت قدماها أرض مطار القاهرة، حتى انتابها شعور قوي بأن الموت لا يتحمل وحده مسؤولية التفريق والمباعدة القسرية بين البشر. وعلى رغم قوتها وقدرتها على الانطلاق والإنجاز والنجاح، وعلى رغم فرحتها بخوض حياة جديدة مع من تحب، شعرت للمرة الأولى بأنها ريشة في مهب الريح. افتقدت مَنْ يشد أزرها في لحظات الضعف والكآبة، إذ لم يعد هناك من يعرف عن ظهر قلب مواطن ضعفها ويحاول جاهداً تحويلها الى قوة من دون أن يفضحها، ولم يعد هناك من يعرف أدق تفاصيل تركيبتها النفسية البالغة التعقيد، وغاب من يعوض عليها رعاية أب وأم صمما على انفصال ضاعف مهمة تعضيدهما ورعايتهما في الكبر، ولم يعد هناك من يفهم ما يموج به قلبها من نظرة.

بات الهاجس الأساس الذي يدور في رأسها كم هو مهم الفراق بين المحبين حتى يعرف كل منهما مكانة الآخر ومحوريته في الحياة، لكن شرط أن يكون فراقاً موقتاً. وكم هو مؤلم أن تعرف أن توأم روحك وقرين طفولتك وشبابك وذكرياتك حي يرزق، لكن ظروف الحياة أجبرتك على أن تستبدل قبلة حانية بمكالمة هاتفية سخيفة يفسدها الحرص على تقصير الكلمات واختصار الجمل واختزال المشاعر خوفاً من التهاب الفاتورة، وأن تستعيض عن تحية الصباح برسالة قصيرة SMS. وأن تشعر بالامتنان لكل من ساهم في اختراق تقنية «وب كام»، بدلاً من أن تخصص الامتنان كله للقدر الذي أوجدك يوماً مع الشخص الذي لا يمكن تعويضه في حياة واحدة.