تثير المكتشفات الأثرية بكل أطيافها مجموعة من التساؤلات، حول ماهية المواد التي استعملها الإنسان، في صنع حاجياته الحياتية على مرِّ العصور القديمة، والأجوبة على مثل هذه التساؤلات نوضحها في حديثنا التالي:
لقد بدأت التنقيبات الأثرية في منطقة "الرقة" منذ عام /1948/م، أو قبل ذلك بقليل تقريباً، وقد شمل التنقيب مجموعة من المواقع الأثرية، أولها كان موقع مجموعة (القصور العباسية) خارج سور المدينة القديمة، وثاني هذه المواقع مدينة "الرصافة" الأثرية في عام /1952/م، وفي "تل خويرة" بدأت التنقيبات الأثرية في بداية خمسينيات القرن الماضي، وما زالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر ومنذ عام /1970/ توسعت حملات التنقيب الأثري في منطقة "الرقة"، بحيث تجاوز عددها أكثر من عشرين بعثة تنقيب، تمركز عملها في عدة تلول أثرية، أغلبها كان معرضاً للغمر نتيجة لتشكل بحيرة "الأسد"، وأهمها التلول التالية:
"تل السلنكحية"، "تل الحاج"، "تلول الحبوبات"، "تل عناب السفينة"، "تل الحديدي"، "تل العبد"، "تل الشيخ حسن"، "تل طاوي"، "تل حلاوة"، "تل الحويش"، "تل مريبط"، وعلى البليخ طال التنقيب الأثري مجموعة من التلول منها: "تل أسود"، "تل خويرة"، تل الدامشلية، "تل حمام التركمان"، حصن "مسلمة بن عبد الملك"، "تل زيدان"، "تل البيعة"، "تل غانم العلي"، "تل هرقلة"، موقع "سورا"، "الرصافة"، "تل أبو هريرة"، قلعة "جعبر"، موقع "دامان"، "تل أسود" في "الرقة"، "الرقة" الإسلامية القديمة، القصور العباسية، تلول البللور والزجاج والفخار، "تل شاهين" على البليخ، و"تل غانم العلي" على الفرات.. هذه التلول وهذه المواقع، كانت في يوم من الأيام حواضر ومراكز استيطان بشري متطورة، وعثر فيها على كل احتياجات الانسان الحياتية، من بناء شيد بمادة الحجارة واللبن والآجر، إضافة إلى مواد أخرى مثل: المواد النباتية (القصب البردي والخشب وأغصان الأشجار)، وغيرها من لوازم البناء. وهذه المواد استعملها الانسان في بناء مسكنه، ومنها شيد القرى والمدن العظيمة.
إنّ المعطيات الجيولوجية والجغرافية، هي التي تحدد نوع المادة لذلك، وكما أسلفنا، نجد أنّ المواد الأساسية المستعملة في البناء هي: الطين الحجر والآجر بكل أنواعه، وكذلك الخشب والرصاص والحديد، إضافة إلى المواد الثانوية مثل أغصان الشجر وسيقان النباتات الشوكية وغيرها، ولذلك نجد أنّ أقدم المعابد في سورية وبلاد الرافدين، كانت مغطاة بالطين والقش وأغصان الأشجار الدقيقة.. ونتيجة للتطور الحاصل في بنية البناء وأنماط الفنون، نجد أنّ الإنسان استعمل مواد أخرى مثل، الحديد والذهب والبرونز والفضة والعاج والألباتر والطين المشوي، وكذلك الأحجار الثمينة. كما أنه استعمل، الإنسان، استعمل الصدف الحجرية والنهرية، وكذلك عظام الحيوانات. إضافة إلى ذلك كله، اكتشف الإنسان أثناء ممارسته في تصنيع المواد، مواد جديدة مثل: الزجاج والمينا ومواد التلوين والأصباغ، حيث استعملها كلها في ابتكاراته في مجال الفن التشكيلي.. وخلال مسيرة الإنسان المعرفية الطويلة، لم يكتفِ بما قدمته له الطبيعة، ولا بما اكتشفه وابتكره هو نفسه، بل نراه في كثير من الأحيان، قد عمد إلى استعمال مواد كثيرة، كانت مستعملة سابقاً من أسلافه السابقين، حيث نجد أنّ المعماريين القدماء في سورية، وفي بلاد الرافدين، وفي مصر، قد عمدوا إلى استعمال مواد من مباني شيدت قبل عصرهم بمئات السنين، ونجد مثال على ذلك في "قصر البنات" في "الرقة" القديمة، وهذا البناء من الطراز العربي الإسلامي، بني في القرن الثامن الميلادي، وقد استعمل في بنائه مواد من القرن السادس ق.م، وفي المسجد الأموي بـ"دمشق"، نجد أنّ المعمار العربي، قد استعمل في بنائه مواد كانت مستعملة في بناء الكنائس من الفترة المسيحية، وحولوا أجزاء من المعابد والكنائس إلى دور للعبادة في الفترة العربية الإسلامية. وبناءً على ما تقدم، فإننا نوجز أسماء المواد التي استخدمها الإنسان في صنع حاجياته الحياتية في القديم على النحو الآتي:
الآجر (الطوب): والآجر على نوعين منه اللبن المصّنع من التربة الزراعية المخلوطة بمادة التبن، سيقان القمح المسحوقة، ويصنّع ضمن قوالب من الخشب بمقاسات مختلفة، حيث يترك فترة زمنية محددة تحت أشعة الشمس حتى يجف. أما النوع الثاني، فهو الآجر المفخور في أفران عالية الحرارة /12000/ درجة، ويصنّع هذا الآجر من التربة الزراعية مع كمية من رمل نهر الفرات، أو أي مادة رملية أخرى ضمن قوالب من الخشب ذات مقاسات مختلفة، ففي "الرقة" يحضّر الآجر في أفران بنيت على مشارف المدينة في موقع أثري اسمه "هرقلة" خصيصاً لتصنيع آجر من نوع "الرقة" ذي المقاسات التالية /10×5×7/، وهذا النوع من الآجر استعمله العباسيون في بناء مدينة "الرقة" الإسلامية ومنشآتها المعمارية.. والآجر استعمله البشر منذ فترة ما قبل التاريخ، وقد ظهر استعماله في موقع "حمو كار" في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وظهر أيضاً في "تل خويرة" بالقرب من "الرقة"، ومن هذه المادة، شيدت مساجد وقصور.. وفي زمننا الحاضر ما زال الآجر مستعملاً في البناء.
الحجارة: والحجارة على أنواع منها، الحجارة ذات المنشأ الرملي، وهي حجارة هشة غير مقاومة، وقد كثٌر استعمالها في مناطق الفرات الأوسط مدينة "الرصافة" الأثرية، والنوع الثاني من الحجارة هناك "الحجارة البازلتية" وكثر استعمالها في بناء الكنائس ودور السكن قديماً في جنوب سورية، وهذه الحجارة قوية ومقاومة، وغير قابلة للكسر مدرج "بصرى" من الفترة الرومانية في سورية، ومباني "شهبا" ومعبد "فيليب العربي"، والنوع الثالث
من الحجارة في سورية هي الحجارة الكلسية والغرانيتية، وقد شاع استعمالها قديماً في شمال غرب سورية في بناء المعابد والكنائس ودور السكن مثل كنيسة "كرب شمس" والمجمع الكنسي "القديس سمعان" في كل من "حلب" و"ادلب".. كما استعملت الحجارة القوية في بناء الأهرام في مصر قديماً. أما في بلاد الرافدين، فقد اقتصر استعمال الحجر فقط في أساسات البناء. وفي سورية استعمل الحجر قديماً في بناء حواضر معروفة مثل "ايبلا وأوغاريت". أما في منطقة "الرقة"، فقد استعمل الحجر الصخري في فترة الألف الثالث ق.م فقط في بناء أساسات الأبنية الدينية وفي القصور الملكية مثل: "تل خويرة" و"تل حمام التركمان"... أما في الفترات الرومانية، والمسيحية والبيزنطية، فقد استعمل الحجر في بناء المباني الدينية والمدنية في أغلب الحضارات القديمة، وفي سورية شيدت مباني هامة وكبيرة من هذه الفترات مثل، المعابد الرومانية والكنائس والبازيليكات الكبيرة، كما استعمل العرب المسلمون الحجارة الصخرية في بناء المساجد والمكتبات والحمامات وغيرها.
والحجر الكلسي بكل أشكاله وأنواعه، لم يكن استعماله مقتصراً على البناء فقط، بل عثر المنقبون على أوانٍ كثيرة مشغولة من مادة الحجر الصخري، مثل تلك التي عُثر عليها في موقع "تل البيعة" (توتول)، وهي على شكل جرار حجرية متوسطة الحجم منقوش عليها زخارف هندسية يعود تاريخ صنعها إلى فترة الألف الثالث ق.م، وهي حالياً معروضة في متحف "الرقة" الوطني. وتزخر المتاحف العالمية بمجموعات كبيرة من اللقى الثرية على شكل صحون وجرار مصنوعة من الحجر، وكذلك على مقاعد وعروش ملكية، إضافة إلى أدوات زراعية وأسلحة مثل: السكاكين والنبال ورؤوس السهام، وكلها مصنوعة من مادة الحجر الصواني والصخري. كما أنّ النحاتين نحتوا الكثير من التماثيل البشرية والحيوانية وتيجان الأعمدة من مادة المرمر والحجر الكلسي والألباتر. ومن الحجارة الثمينة النادرة رغم قساوتها وصلابتها، مثل المرمر واللازورد والزمرد والعقيق والديوريت وغيرها، شذب وصنع القدماء أشياء نادرة مثل: الأطواق والأختام ونماذج جميلة تستعمل للزينة وللصناعات الدقيقة. ويعتبر حجر الألباستر من أجود أنواع الحجارة التي تسمى بحجر المرمر الأبيض. وهذا النوع من الحجر وجد بكثرة في سورية، منذ عصر السلالات الأولى في كل من سورية والرافدين ومصر. وفي سورية عثر على مصنوعات من هذا الحجر، مثل تمثال (أبي إيل- Ebih-il) الذي عثر عليه في مملكة "ماري" على الفرات الأدنى، وهو حالياً معروض في متحف "اللوفر" في "باريس"، وتمثال "سرجون" المعروض حالياً في متحف "تيران"، وثلاثة تماثيل المتعبدين عثر عليها في "تل خويرة" في "الرقة"، وجميعها معروضة حالياً في المتحف الوطني في "دمشق".