الغياب.. يقتضي حضوراً وإلا فقد معناه

"أن يكون المرء، هو أن يُرى."
هكذا بورخيس يفلسف الغياب بعدم الرؤية، بغياب الاسم وصاحبه عن باصرتنا، فلا يبقى منهما سوى الذكرى، لحضور قد يمحو معالمه الزمن شيئاً فشيئاً، ولكنه إلى ذلك مجرد غياب مؤقّت لطالما ظلّ مصنّفاً في الحيّز ذاته، ولطالما لم ينتقل إلى حيز الفقد، لأنه شتان ما بين المعنيين من حيث الدلالة، ولكننا ما دمنا بصدد الحديث عن الغياب، فإننا سنهمل مسألة الفقد مؤقتاً، كما سنهمل نقيضه "الحضور"، وسنلحّ على مفردة جديدة نسمّيها "الصمت"، وما بين الصامت والغائب كذلك مسافة، حيث إن الصامت حاضر، ولكنه غائب برغبته

بمعنى إنه يمارس حريته في الغياب أو بعدمه. إنه غائب مؤقّت قد يطرق الباب في كلّ لحظة مرتقبة ويدخل المنزل أو الحيّز الذي غاب عنه، أو سكت عن مخاطبته، شانه في ذلك شأن تلميذ المدرسة الذي غاب يوماً أو يومين، ولكنه إلى ذلك ظلّ حاضراً عبر أصدقائه، يسألهم عما جرى هناك في كلّ لحظة أمضاها غائباً. وبذلك فإنه غائب حاضر ومتابع، وكأن هذا الغياب دفع به قسراً لحضور إضافيّ يلتمسه من خلال عيون التلاميذ والأصدقاء وكلامهم، أما في حالة الكتابة فيلتمسه الكاتب من خلال ما يكتبه زملاء الأمس، فيتابعهم متابعة الحاضر ولكن بصمت. وهو حال الكثيرين ممن غاب من الكتاب عن ممارسة فعل الكتابة، ولكن حضورهم متوقع بين حين وآخر، وبذلك فإن هذا الغياب سيكون حالة مؤقتة، ولكنه إلى ذلك سيفتح المجال للتساؤل عن أسباب الغياب، وعن مدى إمكانية الغائب في العودة إلى رشاقته المعهودة بعدما سالت انهار الزمن وباتت المسافة شاسعة بين ما كان يكتبه في الأمس، وبين ما يكتبه أقرانه اليوم..
يقول المعجم في مادة: "غاب": غاب غيباً، كلّ ما غاب عنك، والجمع منه غُيَّب وغُيَّاب، والمغايبة خلاف المخاطبة. وقال امرؤ القيس:
فظلّ لنا يومٌ لذيذٌ بنعمةٍ فقِلْ في مقيل نحسُّهُ متغيِّبُ

وإلى ذلك فإن الغياب حالات مختلفة، فثمة غياب قصير المدة لا يستدعي قلقاً، وثمة غياب طويل المدة كحال المغتربين أو المهاجرين والمهجّرين، هناك غيابات قسرية: كالتهجير عن الأرض كما في حال الشعب الفلسطيني، أو النفي والإبعاد، والغياب الأشد هو السجن بلا شك، وخصوصاً السجن السياسي في ظلّ نظام قهريّ مستبد، لأنه غياب بدايته معروفة، ولكن نهايته إلى ذلك تنطوي على غموض شديد، حيث في كلّ يوم يتوقّع حضوره، وفي كلّ مناسبة ولكنه لا يأتي كما عبر محمد علي الأتاسي: " يجهد أهل السجين للتعود على خبز يومهم الجديد الذي اسمه الانتظار. يغمسونه تارة بمرارة اليأس وطورا بملح الأمل. تحاول الأم أو الزوجة عبثا أن توقف الزمن في انتظار عودة السجين. تترك أغراضه وملابسه في الخزانة وتبقي الغرفة على حالها وتدع كتبه راقدة هي الأخرى تنتظر في مكانها على رفوف الزمن. تتزين الزوجة كل صباح وتربي أنوثتها الذابلة على وقع الانتظار. يكبر الأولاد وتكبر مراهقتهم وتضيق ثياب الأعياد وتظل تتكرر عبارة الرجاء: "إن شاء الله العيد الجاي وبابا معنا".
تمر سنة أو سنتان، حقبة أو حقبتان، ويفرض الزمن في النهاية قوانينه ويغادر انتظاره! تتبدل حال المنزل وغرفه وأغراضه وأحيانا يتبدل المنزل بالكامل. تشيخ الزوجة وحيدة أو تغادر عش الزوجية قبل أن يدركها الانتظار. يتزوج الأولاد وتقام الأفراح على وقع الغياب وأحيانا لا تقام. يموت والدا المعتقل وحتما تقام لهما وله مجالس العزاء."
ولكن الغياب الذي نقصده، وهو الغياب الذي يتطلّب حضوراً لكي نبقيه في التصنيف، وباعتباره حالات مختلفة، فإنه لا بدّ من توصيفه كي على الأقل ندرك كينونته الغامضة؛ التي لم يبق شاعر إلاّ وخاض في متاهته بحثاً عن ذاته، أو عمّن يحبّ أن يكون حاضراً قربه، فيتراءيان جسدياً، يتلامسان، ويتكلّمان.. وهو ما عبر عنه بسّام حجّار في "معجم الأشواق" في فصل "يراك المحبّ، يجعلك موجوداً" حيث يقول: "إذا كان ليس ثمة من ينظر إليك ويراك، فأنت إذاً في حالة فقدان مظهرك، ويسعك القول، وإن القول عبارة عن إحساس مؤقّت، إنك ما عدت موجوداً، أو، في الأقل، ما عدت حاضراً، إذ يحال وجودك على صيغة الغياب والغيبة. فالصلة بين الحضور والعين التي ترى حاسمة لغة ومعنى." وهو كلام قريب مما أورده عن بورخيس التي صدرنا عبارته أو عن "ترجمان الأشواق" لابن عربي في قوله: "المناظر العلى: من حيث هي مناظر لا وجود لها إلاّ بوجود الناظر، كالمقامات لا وجود لها إلاّ بوجود المقيم، فإذا لم يكن ثمّ مقيم، وإذا لم ناظر فما ثمذ منظور إليه من حيث ما هو منظور إليه. فهلاكهم، إنما هو من حيث عدم وجود الناظر.."
ولما كنت مدمن غياب فإن وجوه الأحبة بالنسبة لي على الأقل تتوقف عند زمن مفارقتي، أراها دائماً نضرة ومستبشرة، ولكن الزمن فيما بدا لي أنه لم يتقاعس في ترك آثاره على وجوه أصدقائي، وعلى أجسادهم أيضاً، وربّما الغائب وحده هو الذي يدرك كم من التغيّر أصاب وجهاً أليفاً، نظراً لأنه يسافر وفي مخيلته صورة محددة لهذا الوجه، وعندما يعود بعد سنين سيدرك كم هي قاسية هذه اللعبة بين الغياب والزمن. حيث إنني غالباً ما أشاهد المغتربين هنا، وقد عصف الحنين بهم إلى أحبة تركوهم، أو إلى أمكنة استوطنت ذاكرتهم، وكنت كتبت عن ذلك للمنتدى قائلاً:
البارحة ليلاً كنت أضع اللمسات الأخيرة لكتاب سيصدر قريباً، وكان للاغتراب حظّ منه، سيما وأن المغتربين هنا كثر، وحالات الحنين ربما تعصف بغرباء الليل الذين أجدهم على الدوام يطلبون أغنية “strangers in the night" بينما هم يحتسون البيرة الدرافت، ويرقبون أجساد الأوربيات الباحثات عن متعة إضافية في بلاد الشرق الساحرة والمكتظة بالفحولة..
ربّما قلت في قراءتي لأحدهم إن المغترب يصاب بمرض الحنين منذ لحظة غيابه عن الحاضنة الأولى وحتى العودة إليها بعد انقضاء زمن. وما بين الخروج والدخول تكمن عوالم كاملة من حيوات أولئك الأفراد الذين خرجوا جماعات وفرادى نحو العالم بأحلام محدودة في الخلاص من واقع ضاغط، ولكن الدروب ستفضي بهم جميعاً إلى متاهات حقيقية، تنفتح على تشظيات المغترب عن المكان وفي شكل من أشكال النوستالجيا المعروفة لدى سائر المغتربين، بحيث تغدو الأشياء المكروهة في زمن ما براقة ومثيرة في زمن الاغتراب، لتدفعه تلك الأشياء من جديد إلى الحاضنة لشعوره الدائم انه يفتقدها. ولكن المشكلة الأساسية في هذا الضرب من الحنين المبالغ به، أن المغترب لدى عودته سوف يكتشف أن أشياءه هذه إن ظلّت على قيد الحياة، إلاّ أنها باتت شاحبة وعقيمة، وذلك لأن الزمن راكم فوقها طبقات كثيفة من الغبار، بحيث يتعذر إعادتها إلى البريق الذي كانت عليه، وذلك لأن أهل الحاضنة أنفسهم ما عادوا مهتمين بها في حياتهم الجديدة، بما في ذلك الفضائل والأخلاق المعبرة عن زمن سابق.
مشكلتي أنني هنا لست أعاني من مرض الحنين، بما هو مرض، وإنما أتعامل معه كفلكلور احتراماً أو مسايرة للأصدقاء الذين يعصف بهم حنيهم، ولكنني إلى ذلك قرفت من أغنية فرانك سيناترا هذه ولا أستطيع منع المغنية المحترمة "جاكي" من عدم غنائها، لأنها تظنّ أنها تسعدني، بل غالباً ما تأتي وتجلس إلى جانبي وتطلب مني مشاركتها الغناء.. فأغني بصوتي الأجش ويصفق الحاضرون، ولعلي أفسر هذا الضرب من الحنين لديهم بسبب من غياب الحبّ، والغياب كما تعلمون يفني النفس كما عبّر شيخنا الأكبر ابن عربيّ:
"أغيب فيفني الشوق جسدي، فألتقي، فلا أشتفي فالشوق غيباً ومَحضرا"،
ومع هذا الغياب تشتعل الذكرى ويمعن الكتّاب في نصوصه: شوق للروائح، وآخر لملامسة جسد غائب، للرؤية، للإصغاء، للوصل، للبكاء في أحضان الأمومة المفتقدة في الزمان الجديد...
وهذا الأمر يدفع للتساؤل عما يتركه الغائبون من أثر يذكّر بحضورهم في المكان، تماماً كآثار الدمن التي وقف الشاعر العربي مطوّلاً، لأن الأثر إذا ارتبط بالمكان فإن الحضور فيه دائم وأزلي، حيث بعد ألفي عام ما زلنا نرى "خولة" أو "عبلة" أو "نوار" يقفن في الأمكنة المذكورة من خلال أخيلة الشعراء في مطالع المعلّقات. وبذلك فإن المنديل الذي تركته "نوار" مربوطاً إلى وتد خشبي مهمل، كان أثراً مهماً، حيث أدركت بفطرتها أن هذا المنديل يعني حضورها في المكان، وأن الشاعر أو الحبيب قادم لا محالة، ليمسك به برهة، ليشمّ رائحة الحبيب، أو ليمسح دمعاً فاضت به العينان، وهكذا بالرغم من رمزيته البسيطة إلاّ انه وقف ضدّ الغياب، بل ضدّ النسيان.. إنه باختصار حضور دائم يسافر مع الزمن بالرغم من غياب صاحبه، وكذلك هي الأعمال الأدبية التي كتبها الغائبون، هي بمثابة حضور دائم تنفلت من الموت عبر الفن، لأن كلّ كتابة تحمل قيمة ما هي بمثابة رسالة حبّ تركها صاحبها، تماماً كذلك المنديل. وهكذا يتحوّل الغياب حضوراً عبر قراءتنا له، فكيف نسمّي الغياب غياباً في هذه الحالة، وهو حافل بحضوره؟
الشعر المعاصر بدوره ، سيحتفي بالغياب، ولكن على طريقته أيضاً في تداوله وفلسفته من غياب الحبيب إلى غياب الجميل في الحياة، وهو في العموم غياب غامض لحبيب أو أحبة، غياب ثقيل ترزح تحت وطأته سعادة الشاعر، كما عبّر عن ذلك جملة من أصدقائنا الشعراء، فها هو خلف علي الخلف، يعبّر عن الغياب على طريقته:
" سأنسى دفاتركَ اليابسة فوق عرشكَ/ أنادي:

انثريني بلاداً
حنينا يأكل الضوء من خبزه
صمتاً يلد من العطر
اماكنا تتلمس صورتكِ مرسومةً في بهاء الظهيرة
انثريني دموعاً يثمرها شجر الغائبين.."
بينما سيكتب الشاعر علي سفر مجموعة يسمّيها "يستودع الغياب" حيث ربّما لضيقه به جَسّمه على شكل قطعة خردة، ثمّ علّبه، وأودعه مستودعاً يتّسعه، هذا إذا كان الفعل مبنياً للمجهول طبعاً، ولكنه في مجموعته الجديدة سيكتب نصاً جميلاً عن الغياب أسماه "حصالة الريح":
"العناقيدُ .. الاستطالاتُ المدماةُ,,
بطاقةُ التعريفِ المرميةِ قربَ البابِ وقد تذهبُ بهِ الريحُ ولا يعودْ،
فلا نعرفُ من منا سيملأُ خابيةً
ومن سيكسرُ الغصنَ الموسومَ بالأسودِ والأبيضِ
في ذاكرةِ طفلٍ تعثّر باسمه
و ضاع.."
بينما فرات إسبر من نيوزيلندا، تنتظر غائباً بكلّ حرقة الحبّ في نص جميل لها بعنوان "مجرات الحنين":

"بأصابع أحرقها الوجد
وعدُ الأيام
أمرر يدي في التراب ..
أجبل الماء والطين
ارسم وجهكُ
الذي لم يأتِ بعد..
طال انتظاري …
طال انتظاري..
وبحيرات الكلام جفت من حنيني إليك
ساعة في العمر
بها أنت ..
على بابه انتظر
الريح تكسر أغصان انتظاري إليك
ولم تأتِ بعد ُ .."
أما على صعيد القصّة والرواية، فثمة نتاج كثير تناول هذا الجانب، ولكن الرواية التي انبت عليه بما يمكن تسميته "نصّ الغياب" هي رواية "الجهل" لكونديرا، حيث يطرح قضية الغياب عبر شخصيتيه "إرنا" و "جوزيف" وقد هاجرا بعيداً عن "تشيكيا" هرباً من النظام الشيوعي، وهكذا فإنهما سوف يمضيان قرابة عشرين عاماً في المنفى، حيث تعيش "إرنا" في فرنسا وهي منذ وطئت قدماها التراب الفرنسي اعتبرت نفسها فرنسية، وعاملتها فرنسا كلاجئة تستحق الشفقة. أما جوزيف فهو طبيب بيطري هاجر إلى الدانمرك وأقام عشرين عاماً، تزوّج ثمّ ماتت زوجته، ولكنه ظلّ وفياً لها، بل إنه قرر ألاّ يدعها تدخل دائرة النسيان كما حدث له مع وطنه وأهله وناسه، فاختار أن ينبذ فكرة الوطن والحنين والذكريات، ويواظب على معايشة الميتة وكأنها لم تغب عنه، وهكذا فإنه عندما التقى "إرنا" في المطار لم يتذكرها إطلاقاً، ولكنه خجل من التصريح بذلك، ولكن "إرنا" التي احتفظت عشرين عاماً بصحن السجائر الذي أهداه لها ذات ليلة، ستعيش لحظات عاطفية جديدة: حبّ قديم ومض ذات يوم ولكنه لم يكتمل، وهاهي الآن تريد إيقاظه..
ويواظب كونديرا على تحليل ظاهرة الغياب هذه مقارنة بغياب عوليس في "الأوديسة" ليبرز سؤال مهمّ عن وجه التشابه بين "عودة" هؤلاء المهاجرين وعودة "عوليس". وهو سؤال ضروريّ، فالكلّ يحن إلى الحاضنة الأمومية، والبعض مثل "عوليس" جاهد في البحر عشرين عاماً كي يعود إلى إيثاكا، فما هي نتائج هذا الشوق على الصعيد الشخصي للبطل؟
إن عوليس وإرنا وجوزيف، الذين انفصلوا عن الأوطان لفترة زمنية طويلة، ولم يعايشوا خلالها أحداً من أبناء أوطانهم في المهجر، فإنهم سوف ينسون الكثير من الذكريات هناك، سوف يصابون بفقدان الذاكرة. حيث كلّما اشتدّ الحنين كلّما فرغوا أكثر من ذكرياتهم: "كلّما كان عوليس يزداد نحولاً كلّما ازداد نسيانه، لأن الحنين لا ينشّط الذاكرة، لا يبعث الذكريات، يكتفي بذاته، بعاطفته، يمتصّه.." أما بالنسبة لأهاليهم وأصدقائهم فإنهم سيذكّرونهم على الدوام بمرحلة ما قبل الهجرة، لن يكترثوا بالعشرين عاماً التي أمضاها أحباؤهم خارجاً، ولا كيف عاشوا وعانوا، لأنهم يظنون أن ما من شيء يهمّ المهاجر أكثر من مدينته.. ولكن من كلّ ذلك الجحيم من الأسئلة لن يخرج سؤال واحد عن ذات المهاجر وعن جحيمه الذي أمضاه هناك..

كاتب وناقد سوري مقيم في الإمارت