بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
تحت هذا العنوان الكاشف أعرب المؤرخ الفرنسي هنري بروخ Henri BROCH في كتابه حول ظواهر ما وراء الطبيعة الصادر عام 1989، عن رأيه العلمي في تاريخ وخبايا ما يُطلق عليه "الكفن المقدس" أو "كفن تورينو" (نسبة إلى مدينة تورينو الإيطالية حيث يوجد محفوظا بكاتدرائيتها حاليا)، ويقصد به الكفن الذي تم فيه تكفين يسوع بعد صلبه كما يقولون.. وهو ليس بالكفن العادي لأنه عبارة عن قطعة نسيج طولها أربعة أمتار وثلث تقريبا، مطبوع عليها صورة جثمان يسوع من الأمام والخلف، ويقدمونها للأتباع على إنها تحمل الأثر الحقيقي أو الطبعة الحقيقية لجثمانه وأنها الدليل القاطع على موته ودفنه وبعثه – بما إنهم وجدوا القبر خالياً من صاحبه والكفن مطوياً على الأرض ! ومجرد هذه المعلومة الإنجيلية تستوجب التساؤل حول كيفية قيامه من الموت وفك أربطة الكفن بنفسه، وهو مكبّل به، وطيه ووضعه جانبا .. ثم : من أين له بالثياب التي خرج بها ليظهر للناس فكل القبور خالية حتما من الثياب، بل ولا توجد بها أية ملابس ولو من باب الاحتياط ؟؟!
ولا شك في أن قصة ذلك الكفن من النماذج الصارخة الدالة على مدى الصراع الذي تخوضه المؤسسة الكنسية من أجل تثبيت عقائد المسيحية الحالية التي نسجتها على مر التاريخ. فما من أثر تاريخي قد دارت حوله المعارك مثل ذلك الكفن.. ولا يزال، فالمسلسل متواصل – وفقا لما أعلنه الفاتيكان، حتى عام 2010 كما سنرى..
|
صورة لغلاف كتاب ما وراء الطبيعة لهنري بروخ |
وترجع قصة "الكفن المقدس" إلى منتصف القرن الرابع عشر، عند أول ظهور له في التاريخ عندما قامت صاحبته، أرملة الفارس جوفروا الأول من شارنى، بعرضه سنة 1357 في الكنيسة التي بناها له زوجها الفارس الراحل في بلدة ليرى. وفى عام 1360 قام أسقف مدينة طروادة بمنع عرض هذا الكفن على أنه مزيّف حيث أن الأناجيل لا تذكره.. وفى عام 1389 فرض البابا كليمنت السابع عرض الكفن على الجمهور، إلا أن المسودّة المكتوبة في 6 يناير 1390 يشير فيها إلى انه لا يمثل يسوع. لكن هذه العبارة قد اختفت من النص النهائي، الصادر في أول يونيو 1390، حيث أعلن البابا انه سيمنح الغفران لكل من يزور الكنيسة التي تضم الكفن في بلدة ليرى ويتبرك به.. وفرض عقاب الصمت على أسقف طروادة وهدده بالحرمان والطرد من الكنيسة.. ولأول مرة يعلن البابا كليمنت السابع رسميا عن أن وجه يسوع مطبوع على الكفن !. والطريف أن الأقوال تتضارب حتى في هذه النصوص ما بين "المنديل" الذي عليه طبعة وجه يسوع أو "الكفن" الذي عليه آثار طبعة جثمانه كاملا من الأمام والخلف !. غير أن كفّة "الكفن المقدس" هي الأربح في خضم هذه المعارك.
بينما يوضح كلا من ك. أ. ستيفنصن وج. ر. هابرماس في كتاب لهما عن "الحقيقة حول كفن تورينو" الصادر عام 1981، أن أرملة الفارس جوفروا استطاعت الحصول على الموافقة بعرضه أيام الأعياد.. مما أثار غضب أسقف طروادة فاشتكى إلى الملك شارل السادس الذي أمر بمصادرة الكفن.. ومع عدم توقف المحاولات لإعادة عرضه، قام الأسقف بكتابة مذكرة لبابا روما ليحيطه علما بأن كافة القائمين على إبراشيته يعلمون أن هذا الكفن مزيّف، موضحا أن الأسقف الأسبق، هنرى دى بواتييه، كان قد أكد له أن الكفن مزيّف، وأن أحد الفنانين قد قام بتزويره لجلب الجماهير والتكسب من هباتها، مضيفا: "بعد تحقيق دقيق وتحليل لمختلف الوقائع والأحداث تبيّن ان ذلك الكفن عبارة عن عملية تزوير، فقد تم رسمه بمهارة، أى أنه من صنع البشر وليس بمعجزة" .. وقد تكون هذه العبارة هى التى جعلت البابا يفرض عليه عقوبة الصمت، (صفحة 134) ..
وفى عام 1449 قام الأب توما من دير السستريين والأب هنرى بيكل بالإعلان رسميا قائلين : " أن الخطوط الخارجية لأطراف يسوع مرسومة بمهارة فنية عالية" .. أي انه معروف منذ البداية أنه مزوَّر.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مشوار المؤسسة الكنسية مع التزوير والتحريف معروف على مدى التاريخ، نذكر منه على سبيل المثال : وثيقة هبة قسطنطين، فتاوى إيزدورا، ودستور سيلفستر، ومرسوم جراسيان، وكمّ لا حصر له من الوثائق المزوّرة الأخرى وكل واحدة منها تكشف عن محاولة سيطرة روما على أحد الملوك أو على مزيد من الأراضي والامتيازات.. ومنها أيضا بدعة "صناعة" وعبادة القديسين، و"فبركة" آثارهم للتبرك، وهى بدعة لم تبدأ تاريخيا إلا فى القرن الخامس الميلادى!.
ورغمها، تزايدت عروض "الكفن المقدس" في باريس بصور احتفالية صاخبة أدت بالبابا يوليوس الثاني (1503-1513) بتحديد يوم 4 مايو عيدا رسميا للكفن المقدس ..
وفى مساء 4/12/1532 شب حريق ضخم بالكنيسة التي تضم الكفن وتم إنقاذ الصندوق الفضى الذي يحتوى علي الكفن بينما الفضة قد بدأت تنصهر .. ولا تزال حواف طيات الكفن تحمل أثر الحريق. ومنذ عام 1578 تم حفظ الكفن المقدس في كاتدرائية مدينة تورينو التي احترقت في 11/4/1997 وقام أحد رجال الإطفاء بإنقاذ الكفن. وفى عام 1983 قام آخر ملك لإيطاليا بإهدائه للفاتيكان .
ولم تتوقف محاولات عرضه أو فرضه على العقول.. ففى عام 1950 أقيم أول مؤتمر دولى لدراسة الكفن المقدس علميا لتخرج النتائج مشيرة إلى أن الدراسة التشريحية لتلك الصورة المطبوعة تكشف عن أخطاء واضحة في التشريح، إذ أن الأصابع شديدة الطول بصورة مبالغ فيها، والذراع الأيمن أطول بكثير من الذراع الأيسر بحيث انه يصل إلى ركبة يسوع ! فتم إنشاء معهد ستورب STURP)) وهو اختصار لعبارة "مشروع دراسة كفن تورينو"، وهى أول دراسة علمية شاملة يعترف الفاتيكان بها لأن نتائجها تمادت لدرجة زعم وجود آثار للدماء ولمختلف وسائل التعذيب التى تعرض لها واستبعدت إمكانية رسمه بالألوان !!.. وتزايدت المعارك بين أنصار العلم وأنصار الكنيسة.